غزوة مؤتة
لا شك أن إقدام الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر بهذه الصورة الجماعية، لهو خير دليل على أنهم طلاَّب آخرة وليسوا طلاب دنيا، وأن الصدق والإخلاص والتجرد يملأ قلوبهم جميعًا، وأن شجاعتهم كانت بالغة،
وأن قوتهم النفسية والقتالية كانت فوق حدود التصور.لا شك في كل ذلك، لكننا نريد أن نتفهم قرار الحرب هذا في ضوء القياسات المادية التي رآها الصحابة ، وهو سؤال مهم جدًّا : هل كان قرار الحرب هذا قرارًا صائبًا ؟ أو هل كان من المفترض أن يقاتل المسلمون أم لا ؟
والإجابة قبل أن يذهب الذهن هنا أو هناك هي : نَعَمْ كان صائبًا، ولا شك في ذلك؛ والدليل هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلق أي تعليق سلبي على هذا الأمر، ولم يعنِّف الصحابة عليه لا من قريب ولا من بعيد، ولم يذكر أنه كان أولى ألاّ يقاتلوا، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يسكت على منكر؛ إذ سكوته إقرار، وإقراره سُنَّة.
ومعنى هذا أنه لو تعرض المسلمون لنفس هذا الحدث بكل تفصيلاته ، فإن قرار الحرب آنذاك يكون قرارًا صائبًا، لكن كيف يمكن الجمع بين هذا القرار وعدم جواز إلقاء الجيش الإسلامي في التهلكة ؟
فهذا القرار الذي أشار به سيدنا عبد الله بن رواحة لم يلقَ أي معارضة من الجيش
ويجب أن نضع في الحسبان أن هذا الجيش الإسلامي الكبير ليس ملكًا لأفراد بعينهم يضحون به إن شاءوا ذلك ، وإنما هو مِلْك للدولة الإسلامية.
ومن هنا فلا بد أن المسلمين كانوا يرون أن القتال أمر ممكن ، وأن النصر أمر محتمل ، وأنه وسيلة واقعية لمجابهة الظرف الصعب الذي وضعوا فيه.
لكن كيف يُعَدّ لقاء ثلاثة آلاف بمائتي ألف أمرًا واقعيًّا ؟
ثلاثة احتمالات:الاحتمال الأول : أن المسلمين كانوا قد أخفقوا في الحصر الدقيق لأعداد المقاتلين الرومان والعرب ، فقدروهم مثلاً بخمسة أضعاف ، أو عشرة أضعاف أو أكثر من ذلك أو أقل.
وقد وجدوا أن القتال مع صعوبته أمرٌ ممكن ؛ إذ كل معارك المسلمين السابقة كانت بأعداد أقل بكثير من أعداد المشركين، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
وقد ذكر أيضًا في سورة الأنفال أن الجيش المؤمن قادر على مواجهة عشرة أضعافه إن كان قويَّ الإيمان، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ }
نَعَمْ نزل التخفيف بعد ذلك، وجعل المسلم باثنين من الكفار، لكن من الممكن أن يصل المسلم الواحد إلى عشرة من الكفار، بل قد يزيد على ذلك ويصبح الرجل بألفٍ منهم، كما قال سيدنا الصِّدِّيق في حق سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي وفي حق سيدنا عياض بن غَنْمٍ، وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب في حق سيدنا عبادة بن الصامت وفي حق سيدنا الزبير بن العوام، وسيدنا مَسْلَمة بن مُخَلَّد، وسيدنا المقداد بن عمرو، فقد قالا عنهم : إن الواحد منهم بألف.
وقد كان واضحًا منذ أول لحظة أن هذا الجيش الإسلامي في مؤتة من المؤمنين الصادقين، الواحد منهم يعدل عشرات بل مئات من الكافرين. ومن هنا كان قرار الحرب مقبولاً عند المسلمين، وخاصة أنه من المحتمل أنهم قدَّرُوا أعداد النصارى بنحو عشرين أو ثلاثين ألفًا فقط، وهذا أمر محتمل؛ لأن تقدير هذه الأرقام الهائلة قد يكون مستحيلاً في هذه الظروف، إضافةً إلى أنهم في أرض مجهولة للمسلمين لا يعرفون خباياها، ولا كمائنها، ولا طرقها، ولا غير ذلك.
الاحتمال الثاني : هو أن يكون هناك مبالغة في أعداد الرومان ولا شك في أنهم كانوا أضعاف أضعاف المسلمين.
الاحتمال الثالث : وهوأن قادة المسلمين رأوا أن الانسحاب لن ينجيهم من جيوش التحالف الرومانية العربية، وأنهم إن بدءوا في الفرار فإنهم سيحاصرون من كل الجهات ، وفي هذه الحالة ستكون المعركة عبارة عن مجزرة حقيقية يُذبح فيها الجيش الإسلامي بكامله، ومن ثَمَّ كان الأفضل هو الثبات والمقاومة؛ لأن ذلك سيعطي دفعة نفسية إيجابية
ويؤيد هذا أن فكرة الانسحاب ليس فيها شيء من ناحية الشرع، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم فقال: { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ }
ففي هذه الآية حدد الله تعالى سببيْنِ للانسحاب لا يأثم المسلم فيهما :
الأول: هو أن ينسحب كخُطَّة حربية ليعاود الحرب من جديد.
والثاني : أن تعود فرقة من الجيش إلى الفرقة الأم لكي تستعد بصورة أكبر للقتال، ثم تعاود القتال من جديد.
ومن هنا فإن انسحاب الجيش الإسلامي سواء إلى مكان آخر في الأردن أو في الجزيرة العربية، أو حتى عودته إلى المدينة المنورة، ليس فيه خطأ شرعي ولذلك كان أخْذ الصحابة بهذا الرأي أمرًا ممكنًا إن وجدوا أنه يفيد المسلمين وعلى العكس منه فليس من المقبول شرعًا أن يدخل المسلمون معركة يعلمون أنهم جميعًا سيستشهدون فيها ، ويَفْنى الجيش الإسلامي بكامله ؛ لأن هذا يُعَدّ تهورًا وليس إقدامًا.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الجيش الإسلامي وجد أنه لا أمل في الانسحاب وأنهم يجب عليهم أن يواجهوا هذه العقبة بشجاعة وإيمان ؛ حتى يخرجوا منها بأقل خسائر ممكنة ، فكان قرار الحرب وعدم الانسحاب.
أضف لكل ما سبق أن سمعة الدولة الإسلامية كانت ستتأثر سلبًا إذا انسحب المسلمون من المعركة ، خاصةً بعد أن قطعوا هذا الطريق الطويل
الأمر الذي كان معه قرار الحرب حفاظًا على كرامة الدولة الإسلامية.
لا تنسى صديقي مشاركة المقال مع أصدقائك إذا أعجبك و ترك تعليق لنا كتشجيع لنا منك
Publier un commentaire